قصيدة قرأت وما غير الطبيعة من سفر للشاعر معروف الرصافي

البيت العربي

قرأت وما غير الطبيعة من سفر


عدد ابيات القصيدة:78


قرأت وما غير الطبيعة من سفر
قــرأت ومـا غـيـر الطـبـيـعـة مـن سـفـر
صــحــائف نــحــوي كــل فــن مــن الشـعـر
أرى غــرر الأشــعــار تــبــدو نــضـيـدوً
عـلى صـفـحـات الكـون سـطـراً عـلى سـطـر
ومـــا حـــادثــات الدهــر إلاّ قــصــائد
يــفــوه بــهــا للسـامـعـيـن فـم الدهـر
ومــا المــرء إلا بــيــت شـعـر عـروضـه
مــصــائب لكــن ضــربــه حــفــرة القـبـر
تــنــظّــمــنــا الأيــام شــعــراً وإنّـمـا
تـرّد المـنـايـا مـا نـظـمـن إلى النثر
فــمّــنــا طــويــل مــســهــب بـحـر عـمـره
ومـنّـا قـصـيـر البـحـر مـخـتـصـر العـمر
وهــذا مــديـح صـيـغ مـن أطـيـب الثـنـا
وذاك هــجــاء صــيــغ مــن مــنـطـق هـجـر
وربّ يــنــام فــي المــقــابــر زرتــهــم
بــمــنــهــل دمــع لا يـنـهـنـه بـالزجـر
وقــفــت عــلى الأجــداث وقــفــة عـاشـق
عــــلى الدار دارس الطــــلل القـــفـــر
فــمـا سـال فـيـض الدمـع حـتـى قـرنـتـه
إلى زفــرات قــد تــصــاعــدن مـن صـدري
أســـكـــان بــطــن الأرض هــلاّ ذكــرتــم
عـهـوداً مـضـت مـنـكم وأنتم على الظهر
رضــيــتــم بـأكـفـان البـلى حـللاً لكـم
وكـنـتـم أولي الديـباج والحلل الحمر
وقـد كـنـتـم تـؤذي الحـشـايـا جـنـوبكم
فـكـيـف رقـدتـم والجـنـوب عـلى العَـفـر
ألا يــا قــبــوراً زرتــهـا غـيـر عـارف
بـهـا سـاكـن الصـحـراء من ساكن القصر
لقـــد حـــار فــكــري فــي ذويــك وإنــه
ليـخـتـار فـي مثوى ذويك أو لو الفكر
فـــقـــلت وللأجـــداث كـــفــي مــشــيــرة
ألا أن هـذا الشـعـر مـن أفـجـع الشعر
وليـــل عـــدافــىّ الجــنــاحــيــن بــتــه
أســامــر فــي ظــلمــائه واقــع النـسـر
وأقــلع مــن ســفــن الخــيـال مـراسـيـاً
فــنــجـري مـن الظـلمـاء فـي لجـج خـضـر
أرى القــيــة الزرقـاء فـوقـي كـأنـهـا
رواق مــــن الديـــبـــاج رصـــع بـــالدر
ولولا خــروق فــي الدجــى مـن نـجـومـه
قـبـضـت عـلى الظـلمـاء بالأنمل العشر
خــليــليّ مـا أبـهـى وأبـهـج فـي الرؤى
نـجـومـاً بـأجـواز الدجـى لم تزل تسرى
إذا مــا نــجــوم الغـرب ليـلا تـغـورت
بـدت أنـجم في الشرق أخرى على الأثر
تـجـوّلت مـن حـسـن الكـواكـب فـي الدجى
وقـبـح ظـلام الليـل في العرف والنكر
إلى أن رأيـــت الليـــل ولّت جـــنـــوده
على الدهم يقفو أثرها الصبح بالشقر
فـــيـــالك مـــن ليـــل قــرأت بــوجــهــة
نـظـيـم إليـهـا فـي نـثـر أنجمه الزهر
وقـــلت وطـــرفـــي شـــاخـــص لنـــجــومــه
ألا أن هـذا الشـعـر مـن أحـسـن الشعر
ويـوم بـه اسـتـيـقـظـت مـن هجمة الكرى
وقـد قـدّ درع الليـل صـمـصـامـةُ الفـجر
فــأطــربــنــي والديــك مــشــجٍ صــيـاحـه
تـــرنّـــم عــصــفــور يــزقــزق فــي وكــر
ومـمـا ازدهـى نـفـسـي وزاد ارتـيـاحها
هــبــوب نــســيــم ســجـسـجٍ طـيـب النـشـر
فـــقـــمــت وقــام النــاس كــل لشــأنــه
كـأنـا حـجـيـج البـيـت فـي ساعة النَّفر
وقــد طــلعــت شــمــس النــهــار كـأنّهـا
مــليــك مـن الأضـواء فـي عـسـكـر مـجـر
بــدت مــن وراء الأفــق تــرفـل للعـلا
رويــداً رويــداً فــي غـلائلهـا الحُـمـر
غــدت تــرســل الأنــوار حــتّــى كـأنّهـا
تـسـيـل عـلى وجـه الثـرى ذائب التـبـر
إلى أن جـلت فـي نـورهـا رونـق الضـحا
صـقـيـلاً وفـي بـحـر الفـضـاء غدت تجري
وأهــدت حــيــاةً فــي الشــعــاع جـديـدةً
إلى حــيــوان الأرض والنــبـت والزهـر
فــقــلت مــشــيــراً نــحــوهــا بــحـفـاوة
إلا أن هـذا الشـعـر مـن أبـدع الشـعر
وبــيــضــة خــدر أن دعــت نـازح الهـوى
أجــاب ألا لّبــيــك يــا بـيـضـة الخـدر
مــن اللاء يــمــلكــن القـلوب بـكـلمـة
ويـحـيـيـن مـيـت الوجـد بـالنظر الثزر
تــهـادت تـريـنـي البـدر مـحـدقـةً بـهـا
أوانـــس إحـــداق الكــواكــب بــالبــدر
فــللّه مــا قــد هــجِــنَ لي مـن صـبـابـة
ألفــت بــهـا طـيّ الضـلوع عـلى الجـمـر
تــصـافـح إحـداهّـن فـي المـشـي تـربـهـا
فــنــحــر إلى نــحــر وخــصــر إلى خـصـر
مــررنَ وقــد أقــصــرت خــطــوي تــأدّبــاً
وأجــمـعـت أمـري فـي مـحـافـظـة الصـبـر
فــطــأطــأنّ للتــســليــم مـنـهـنَ أرؤسـاً
عــليــهــا أكــاليـل ضـفـرن مـن الشـعـر
فــألقــيــت كــفّــي فــوق صـدري مـسـلمّـاً
وأطـرقـت نـحـو الأرض مـنـحـنـي الظـهـر
وأرســلت قــلبــي خــلفــهــنّ مــشــيــعــاً
فــراح ولم يــرجــع إلى حـيـث لا أدري
وقـــلت وكـــفـــي نـــحـــوهـــنّ مــشــيــرة
ألا أن هـذا الشـعـر مـن أجـمـل الشعر
ومـــادة نـــســـج الدمـــقــس غــطــاؤهــا
بــمــجــلس شــبــان هــم أنــجــم العـصـر
رقـى مـن أعـاليـهـا الفـنـغـراف منبراً
مـــحـــاطــاً بــأصــحــاب غــطــارفــة غــر
وفـــي وســـط النـــادي ســـراج مـــنـــور
فــتــحــســبــه بـدراً وهـم هـالة البـدر
فــراح بــإذن العــلم يــنــطــق مـقـولاً
عــرفــنــا بـه أن البـيـان مـن السـحـر
فــطـوراً خـطـيـبـاً يـحـزن القـلب وعـظـه
وطـوراً يـسـرّ السـمـع بـالعـزف والزمـر
يــفــوه فــصـيـحـاً بـاللغـى وهـو أبـكـم
ويــســمـع ألحـان الغـنـا وهـو ذو وقـر
أمـيـن أبـي التـدليس في القول حاكياً
فـتـسـمـعـه يـروي الحـديـث كـمـا يـجـري
تــراه إذا لقــنــتــه القــول حــافـظـاً
تــمــرّ الليــالي وهــو مـنـه عـلى ذكـر
فـــيـــالك مــن صــنــع بــه كــل عــاقــل
أقــر لآديــســون بــالفــضــل والفــخــر
فـــقـــلت وقــد تــمــت شــقــاشــق هــدره
ألا أن هـذا الشـعـر مـن أعـجـب الشعر
وأصــيــد مــأثـور المـكـارم فـي الورى
يــريــك إذا يــلقــاك وجــه فــتــى حــر
يــروح ويــغــدو فــي طــيـالسـة الغـنـى
ويـقـضـي حـقـوق المـجد من ماله الوفر
تـــخـــوّنـــه ريـــب الزمـــان فـــاولعــت
بــإخــلاقـهـا ديـبـاجـتـيـه يـد الفـقـر
فــأصــبــح فــي طــرق التـصـعـلك حـائراً
يــجــول مــن الامــلاق فــي سـمـل طـمـر
كـأن لم يـرح فـي مـوكـب العـزّ راكـبـاً
عـتـاق المـذاكـي مـالك النـهي والأمر
ولم تــزدحــم صــيــد الرجــال بــبـابـه
ولم يـغـمـر العـافـيـن بالنائل الغمر
فــظــل كــئيــب النــفـس يـنـظـر للغـنـى
بـعـيـن مُـقِـلٍّ كـان قـس عـيـشـة المـثـري
إلى أن قــضــى فـي عـلة العُـدم نـحـبـه
فــجّهــزه مــن مــالهــم طــالبـو الأجـر
فــرحــت ولم يــحـفـل بـتـشـيـيـع نـعـشـه
أشــيــعــه فــي حــامــليــه إلى القـبـر
وقــلت وأيــدي النـاس تـحـثـوا تـرابـه
ألا أن هـذا الشـعـر مـن أحـزن الشـعر
ونــائحــة تــبــكــي الغــداة وحــيـدهـا
بـشـجـو وقـد نـالتـه ظـلمـاً يـد القـهر
عــزاه إلى إحــدى الجــنــايــات حـاكـم
عـليـه قـضـى بـطـلاً بـهـا وهو لا يدري
فـــويـــل له مـــن حـــاكــم صُــبَ قــلبــه
مـن الجـور مـطـبـوعـاً على قالب الغدر
مـــن الروم أمـــا وجـــهـــه فـــمـــشــوّه
وقـــاح وأمـــا قــلبــه فــمــن الصــخــر
أضــــرّ بـــعـــفّ الذيـــل حـــتـــى أمـــضّه
ولم يــلتــفــت مـنـه إلى واضـح الغـدر
تــخــطّــفــه فــي مــخــلب الجــور غـيـلةً
فـزجّ بـه مـن مـظـلم السـجـن فـي القمر
تــنــوء بــه الأقــيـاد أن رام نـهـضـةً
فـيـشـكـو الأذى والدمع من عينه يجري
تــنــاديــه والســجــان يــكـثـر زجـرهـا
عــجــوز له مــن خــلف عــاليــة الجــدُر
بـــنـــيّ أظـــنّ الســـجـــن مـــسّـــك ضّـــره
بــنــيّ بــنــفــســي حــلّ مـا بـك مـن ضـرّ
بـنـيّ اسـتـعـن بـالصـبـر ما أنت جانياً
وهــل يــخـذل الله البـريـء مـن الوزر
فــجــئت أعــاطــيــهـا العـزاء وادمـعـي
كــأدمــعـهـا تـنـهـلّ مـنّـي عـلى النـحـر
وقــلت وقــد جــاشــت غــوارب عــبــرتــي
ألا أن هـذا الشـعـر مـن اقـتـل الشعر
شاركها مع اصدقائك

مشاركات الزوار

شاركنا بتعليق مفيد

الشاعر:

معروف بن عبد الغني البغدادي الرصافي.
شاعر العراق في عصره، من أعضاء المجمع العلمي العربي (بدمشق)، أصله من عشيرة الجبارة في كركوك، ويقال إنها علوية النسب.
ولد ببغداد، ونشأ بها في الرصافة، وتلقى دروسه الابتدائية في المدرسة الرشيدية العسكرية، ولم يحرز شهادتها.
وتتلمذ لمحمود شكري الآلوسي في علوم العربية وغيرها، زهاء عشر سنوات، واشتغل بالتعليم، ونظم أروع قصائده، في الاجتماع والثورة على الظلم قبل الدستور العثماني.
ورحل بعد الدستور إلى الأستانة، فعين معلماً للعربية في المدرسة الملكية، وانتخب نائباً عن (المنتفق) في مجلس (المبعوثان) العثماني.
وانتقل بعد الحرب العالمية الأولى إلى دمشق سنة (1918)، ورحل إلى القدس وعين مدرساً للأدب العربي في دار المعلمين بالقدس، وأصدر جريدة الأمل يومية سنة (1923) فعاشت أقل من ثلاثة أشهر، وانتخب في مجلس النواب في بغداد.
وزار مصر سنة (1936)، ثم قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني ببغداد فكان من خطبائها وتوفي ببيته في الأعظمية ببغداد.
له كتب منها (ديوان الرصافي -ط) (دفع الهجنة - ط)
(محاضرات في الأدب العربي - ط) وغيرها الكثير.
تصنيفات قصيدة قرأت وما غير الطبيعة من سفر