قصيدة من أي عهد في القرى تتدفق للشاعر أحمد شوقي

البيت العربي

مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ


عدد ابيات القصيدة:153


مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ
مِــن أَيِّ عَهــدٍ فــي القُــرى تَــتَــدَفَّقُ
وَبِـــأَيِّ كَـــفٍّ فــي المَــدائِنِ تُــغــدِقُ
وَمِــنَ السَــمـاءِ نَـزَلتَ أَم فُـجِّرتَ مِـن
عَــليــا الجِـنـانِ جَـداوِلاً تَـتَـرَقـرَقُ
وَبِـــأَيِّ عَـــيـــنٍ أَم بِـــأَيَّةــِ مُــزنَــةٍ
أَم أَيِّ طــوفــانٍ تَــفــيــضُ وَتَــفــهَــقُ
وَبِـــأَيِّ نَـــولٍ أَنـــتَ نـــاسِــجُ بُــردَةٍ
لِلضِــفَّتــَيــنِ جَــديــدُهــا لا يُــخــلَقُ
تَــســوَدُّ ديــبــاجــاً إِذا فــارَقـتَهـا
فَــإِذا حَـضَـرتَ اِخـضَـوضَـرَ الإِسـتَـبـرَقُ
فـــي كُـــلِّ آوِنَـــةٍ تُـــبَــدِّلُ صِــبــغَــةً
عَــجَــبــاً وَأَنــتَ الصـابِـغُ المُـتَـأَنِّقُ
أَتَــتِ الدُهــورُ عَــلَيـكَ مَهـدُكَ مُـتـرَعٌ
وَحِـــيـــاضُــكَ الشُــرقُ الشَهِــيَّةــُ دُفَّقُ
تَــســقــي وَتُــطـعِـمُ لا إِنـاؤُكَ ضـائِقٌ
بِــالوارِديــنَ وَلا خُــوّانُــكَ يَــنـفُـقُ
وَالمــاءُ تَـسـكُـبُهُ فَـيُـسـبَـكُ عَـسـجَـداً
وَالأَرضُ تُـغـرِقُهـا فَـيَـحـيـا المُـغرَقُ
تُــعـي مَـنـابِـعُـكَ العُـقـولَ وَيَـسـتَـوي
مُـــتَـــخَــبِّطــٌ فــي عِــلمِهــا وَمُــحَــقِّقُ
أَخــلَقــتَ راووقَ الدُهــورِ وَلَم تَــزَل
بِــكَ حَــمــأَةٌ كَــالمِــســكِ لا تَـتَـرَوَّقُ
حَــمــراءُ فــي الأَحــواضِ إِلّا أَنَّهــا
بَــيــضــاءُ فـي عُـنُـقِ الثَـرى تَـتَـأَلَّقُ
ديــنُ الأَوائِلِ فــيــكَ ديــنُ مُــروءَةٍ
لِمَ لا يُـــؤَلَّهُ مَـــن يَــقــوتُ وَيَــرزُقُ
لَو أَنَّ مَــخــلوقــاً يُــؤَلَّهُ لَم تَــكُــن
لِسِــواكَ مَــرتَــبَــةُ الأُلوهَــةِ تَـخـلُقُ
جَـعَـلوا الهَـوى لَكَ وَالوَقـارَ عِبادَةً
إِنَّ العِـــبـــادَةَ حَـــشـــيَــةٌ وَتَــعَــلُّقُ
دانــوا بِــبَــحــرٍ بِـالمَـكـارِمِ زاخِـرٍ
عَـــذبِ المَـــشــارِعِ مَــدُّهُ لا يُــلحَــقُ
مُــــتَــــقَــــيِّدٌ بِــــعُهـــودِهِ وَوُعـــودِهِ
يَــجــري عَـلى سَـنَـنِ الوَفـاءِ وَيَـصـدُقُ
يَــتَـقَـبَّلـُ الوادي الحَـيـاةَ كَـريـمَـةً
مِــن راحَــتَــيــكَ عَــمــيــمَــةً تَـتَـدَفَّقُ
مُــتَــقَــلِّبُ الجَـنـبَـيـنِ فـي نَـعـمـائِهِ
يَــعــرى وَيُــصـبَـغُ فـي نَـداكَ فَـيـورِقُ
فَـيَـبـيـتُ خِـصـبـاً فـي ثَـراهُ وَنِـعـمَـةٍ
وَيَــعُــمُّهــُ مــاءُ الحَــيــاةِ المـوسِـقِ
وَإِلَيــكَ بَــعــدَ اللَهِ يَــرجِــعُ تَـحـتَهُ
مـا جَـفَّ أَو مـا مـاتَ أَو مـا يَـنـفُـقُ
أَيـنَ الفَـراعِنَةُ الأُلى اِستَذرى بِهِم
عـيـسـى وَيـوسُـفُ وَالكَـليـمُ المُـصـعَـقُ
المــورِدونَ النــاسَ مَــنــهَـلَ حِـكـمَـةٍ
أَفـضـى إِلَيـهِ الأَنـبِـيـاءُ لِيَـسـتَقوا
الرافِــعــونَ إِلى الضُــحــى آبـاءَهُـم
فَـالشَـمـسُ أَصـلُهُـمُ الوَضـيـءُ المُـعرِقُ
وَكَــأَنَّمــا بَــيــنَ البِـلى وَقُـبـورِهِـم
عَهــدٌ عَــلى أَن لا مِــســاسَ وَمَــوثِــقُ
فَـحِـجـابُهُـم تَـحـتَ الثَـرى مِـن هَـيـبَةٍ
كَــحِــجـابِهِـم فَـوقَ الثَـرى لا يُـخـرَقُ
بَـلَغـوا الحَـقـيـقَـةَ مِن حَياةٍ عِلمُها
حُـــجُـــبٌ مُـــكَـــثَّفـــَةٌ وَسِـــرٌّ مُـــغـــلَقُ
وَتَـبَـيَّنـوا مَـعنى الوُجودِ فَلَم يَرَوا
دونَ الخُـــلودِ سَـــعـــادَةً تَـــتَــحَــقَّقُ
يَـبـنـونَ لِلدُنـيـا كَـمـا تَـبـنـي لَهُم
خِـرَبـاً غُـرابُ البَـيـنِ فـيـهـا يَـنـعَقُ
فَــقُــصــورُهُــم كــوخٌ وَبَــيــتُ بَــداوَةٍ
وَقُـــبـــورُهُـــم صَـــرحٌ أَشَــمُّ وَجَــوسَــقُ
رَفَــعــوا لَهــا مِــن جَـنـدَلٍ وَصَـفـائِحٍ
عَــمَــداً فَـكـانَـت حـائِطـاً لا يُـنـتَـقُ
تَـتَـشـايَـعُ الدارانِ فـيـهِ فَـمـا بَدا
دُنــيــا وَمـا لَم يَـبـدُ أُخـرى تَـصـدُقُ
لِلمَــــوتِ سِــــرٌّ تَــــحــــتَهُ وَجِــــدارُهُ
ســورٌ عَــلى السِــرِّ الخَــفِــيِّ وَخَـنـدَقُ
وَكَــأَنَّ مَــنــزِلَهُــم بِـأَعـمـاقِ الثَـرى
بَــيــنَ المَــحَــلَّةِ وَالمَــحَــلَّةِ فُـنـدُقُ
مَــوفــورَةٌ تَــحــتَ الثَــرى أَزوادُهُــم
رَحــبٌ بِهِــم بَـيـنَ الكُهـوفِ المُـطـبِـقُ
وَلِمَـن هَـيـاكِـلُ قَد عَلا الباني بِها
بَــيــنَ الثُــرَيّــا وَالثَــرى تَــتَـنَـسَّقُ
مِـنـهـا المُـشَـيَّدُ كَـالبُـروجِ وَبَـعضُها
كَــالطَــودِ مُــضــطَــجِــعٌ أَشَــمُّ مُــنَــطَّقُ
جُـــدُدٌ كَـــأَوَّلِ عَهــدِهــا وَحِــيــالَهــا
تَــتَــقـادَمُ الأَرضُ الفَـضـاءُ وَتَـعـتُـقُ
مِــن كُــلِّ ثِــقــلٍ كـاهِـلُ الدُنـيـا بِهِ
تَـــعِـــبٌ وَوَجـــهُ الأَرضِ عَـــنــهُ ضَــيِّقُ
عــالٍ عَــلى بـاعِ البِـلى لا يَهـتَـدي
مــا يَــعــتَــلي مِــنــهُ وَمـا يَـتَـسَـلَّقُ
مُـتَـمَـكِّنـٌ كَـالطَـودِ أَصـلاً فـي الثَرى
وَالفَــرعُ فــي حَــرَمِ السَـمـاءِ مُـحَـلِّقُ
هِـــيَ مِـــن بِــنــاءِ الظُــلمِ إِلّا أَنَّهُ
يَــبــيَــضُّ وَجـهُ الظُـلمِ مِـنـهُ وَيُـشـرِقُ
لَم يُـرهِـقِ الأُمَـمَ المُـلوكُ بِـمِـثلِها
فَــخــراً لَهُـم يَـبـقـى وَذِكـراً يَـعـبَـقُ
فُـتِـنَـت بِـشَـطَّيـكَ العِـبـادُ فَـلَم يَـزَل
قـــاصٍ يَـــحُـــجُّهـــُمـــا وَدانٍ يَـــرمُــقُ
وَتَــضَــوَّعَــت مِــنــكَ الدُهــورِ كَـأَنَّمـا
فــي كُــلِّ نــاحِــيَــةٍ بَــخــورٌ يُــحــرَقُ
وَتَـقـابَـلَت فـيها عَلى السُرُرِ الدُمى
مُـــســـتَــردِيــاتِ الذُلِّ لا تَــتَــفَــتَّقُ
عَــطَــلَت وَكـانَ مَـكـانُهُـنَّ مِـنَ العُـلى
بَــلقــيـسُ تَـقـبِـسُ مِـن حُـلاهُ وَتَـسـرِقُ
وَعَــلا عَــلَيــهُـنَّ التُـرابُ وَلَم يَـكُـن
يَــزكـو بِهِـنَّ سِـوى العَـبـيـرُ وَيَـلبَـقُ
حُــجُــراتُهــا مَــوطــوءَةٌ وَسُــتــورُهــا
مَهــتــوكَــةٌ بِــيَــدِ البِــلى تَــتَـخَـرَّقُ
أَودى بِــزيـنَـتِهـا الزَمـانُ وَحَـليِهـا
وَالحُـــســـنُ بــاقٍ وَالشَــبــابُ الرَيِّقُ
لَو رُدَّ فِــــرعَــــونُ الغَــــداةَ لَراعَهُ
أَنَّ الغَــرانــيــقَ العُـلى لا تَـنـطِـقُ
خَــلَعَ الزَمــانُ عَــلى الوَرى أَيّــامَهُ
فَــإِذا الضُــحــى لَكَ حِــصَّةـٌ وَالرَونَـقُ
لَكَ مِـــن مَـــواسِــمِهِ وَمِــن أَعــيــادِهِ
مـا تَـحـسِـرُ الأَبـصـارُ فـيـهِ وَتَـبـرَقُ
لا الفُـرسُ أوتـوا مِـثـلَهُ يَوماً وَلا
بَــغــدادُ فــي ظِــلِّ الرَشــيــدِ وَجِــلَّقُ
فَـتـحُ المَـمـالِكِ أَو قِيامُ العِجلِ أَو
يَـومُ القُـبـورِ أَوِ الزَفـافُ المـونِـقُ
كَــم مَــوكِــبٍ تَـتَـخـايَـلُ الدُنـيـا بِهِ
يُـجـلى كَـمـا تُـجـلى النُـجـومُ وَيُنسَقُ
فِـرعَـونُ فـيـهِ مِـنَ الكَـتـائِبِ مُـقـبِـلٌ
كَـالسُـحـبِ قَـرنُ الشَـمـسِ مِـنـها مُفتِقُ
تَـــعـــنــو لِعِــزَّتِهِ الوُجــوهُ وَوَجــهُهُ
لِلشَــمــسِ فــي الآفــاقِ عــانٍ مُـطـرِقُ
آبَــت مِـنَ السَـفَـرِ البَـعـيـدِ جُـنـودُهُ
وَأَتَـتـهُ بِـالفَـتـحِ السَـعـيـدِ الفَيلَقُ
وَمَــشــى المُـلوكُ مُـصَـفَّديـنَ خُـدودُهُـم
نَــعــلٌ لِفِــرعَــونَ العَــظـيـمِ وَنُـمـرُقُ
مَــمــلوكَــةٌ أَعــنــاقُهُــم لِيَــمــيــنِهِ
يَــأبــى فَــيَـضـرِبُ أَو يَـمُـنُّ فَـيُـعـتِـقُ
وَنَـجـيـبَـةٍ بَـيـنَ الطُـفـولَةِ وَالصِـبـا
عَــذراءَ تَــشــرَبُهـا القُـلوبُ وَتَـعـلَقُ
كــانَ الزَفــافُ إِلَيــكَ غـايَـةَ حَـظِّهـا
وَالحَــظُّ إِن بَــلَغَ النِهــايَــةَ مـوبِـقُ
لافَــيــتَ أَعــراســاً وَلافَـت مَـأتَـمـاً
كَـالشَـيـخِ يَـنـعَـمُ بِـالفَـتـاةِ وَتُـزهَقُ
فـــي كُـــلِّ عـــامٍ دُرَّةٌ تُـــلقــى بِــلا
ثَـــمَـــنٍ إِلَيـــكَ وَحُـــرَّةٌ لا تُـــصـــدَقُ
حَــولٌ تُــســائِلُ فــيــهِ كُــلُّ نَـجـيـبَـةٍ
سَــبَـقَـت إِلَيـكَ مَـتـى يَـحـولُ فَـتَـلحَـقُ
وَالمَـجـدُ عِـنـدَ الغـانِـيـاتِ رَغـيـبَـةٌ
يُـبـغـى كَـمـا يُـبـغـى الجَمالُ وَيُعشَقُ
إِن زَوَّجـــوكَ بِهِـــنَّ فَهـــيَ عَـــقــيــدَةٌ
وَمِــنَ العَــقــائِدِ مــا يَـلَبُّ وَيَـحـمُـقُ
مــا أَجــمَــلَ الإيــمــانَ لَولا ضَــلَّةٌ
فــي كُــلِّ ديــنٍ بِــالهِــدايَــةِ تُـلصَـقُ
زُفَّتــ إِلى مَــلِكِ المُــلوكِ يَــحُــثُّهــا
ديـــنٌ وَيَـــدفَـــعُهـــا هَــوىً وَتَــشَــوُّقُ
وَلَرُبَّمــا حَــسَــدَت عَــلَيــكَ مَــكـانَهـا
تِــربٌ تَــمَــسَّحــُ بِــالعَــروسِ وَتُــحــدِقُ
مَــجــلُوَّةٌ فـي الفُـلكِ يَـحـدو فُـلكَهـا
بِـــالشـــاطِــئَيــنِ مُــزَغــرِدٌ وَمُــصَــفِّقُ
فـــي مِهـــرَجــانٍ هَــزَّتِ الدُنــيــا بِهِ
أَعــطـافَهـا وَاِخـتـالَ فـيـهِ المَـشـرِقُ
فِـــرعَـــونُ تَـــحـــتَ لِوائِهِ وَبَــنــاتُهُ
يَــجـري بِهِـنَّ عَـلى السَـفـيـنِ الزَورَقُ
حَـتّـى إِذا بَـلَغَـت مَـواكِـبُهـا المَـدى
وَجَــرى لِغــايَــتِهِ القَـضـاءُ الأَسـبَـقُ
وَكَــســا سَــمــاءَ المِهــرَجـانِ جَـلالَةً
سَــيــفُ المَــنِــيَّةــِ وَهـوَ صَـلتٌ يَـبـرُقُ
وَتَــلَفَّتــَت فــي اليَــمِّ كُــلُّ سَـفـيـنَـةٍ
وَاِنـثـالَ بِـالوادي الجُـموعُ وَحَدَّقوا
أَلقَــت إِلَيــكَ بِـنَـفـسِهـا وَنَـفـيـسِهـا
وَأَتَـــتـــكَ شَـــيِّقـــَةً حَـــواهـــا شَــيِّقُ
خَــلَعَــت عَـلَيـكَ حَـيـاءَهـا وَحَـيـاتَهـا
أَأَعَــزُّ مِــن هَــذَيــنِ شَــيــءٌ يُــنــفَــقُ
وَإِذا تَـنـاهـى الحُـبُّ وَاِتَّفـَقَ الفِـدى
فَــالروحُ فــي بــابِ الضَـحِـيَّةـِ أَليَـقُ
مــا العــالَمُ السُــفـلِيُّ إِلّا طـيـنَـةٌ
أَزَلِيَّةـــٌ فـــيــهِ تُــضــيــءُ وَتَــغــسِــقُ
هِـيَ فـيـهِ لِلخِـصـبِ العَـمـيـمِ خَـمـيرَةٌ
يَــنــدى بِـمـا حَـمَـلَت إِلَيـهِ وَيَـبـثُـقُ
مــا كــانَ فــيــهـا لِلزِيـادَةِ مَـوضِـعٌ
وَإِلى حِــمــاهـا النَـقـصُ لا يَـتَـطَـرَّقُ
مُـنـبَـثَّةـٌ فـي الأَرضِ تَـنـتَـظِمُ الثَرى
وَتَــنـالُ مِـمّـا فـي السَـمـاءِ وَتَـعـلَقُ
مِـنـهـا الحَـيـاةُ لَنـا وَمِـنـها ضِدُّها
أَبَــداً نَــعــودُ لَهـا وَمِـنـهـا نُـخـلَقُ
وَالزَرعُ سُـــنـــبُــلُهُ يَــطــيــبُ وَحَــبُّهُ
مِــنــهــا فَــيَــخـرُجُ ذا وَهَـذا يُـفـلَقُ
وَتَــشُــدُّ بَــيــتَ النَــحـلِ فَهـوَ مُـطَـنَّبٌ
وَتَــمُــدُّ بَــيــتَ النَــمــلِ فَهـوَ مُـرَوَّقُ
وَتَـظَـلُّ بَـيـنَ قُـوى الحَـيـاةِ جَـوائِلاً
لا تَــســتَــقِــرُّ دَوائِلاً لا تُــمــحَــقُ
هِــيَ كِــلمَــةُ اللَهِ القَــديــرِ وَروحُهُ
فــي الكــائِنـاتِ وَسِـرُّهُ المُـسـتَـغـلِقُ
فـي النَـجـمِ وَالقَـمَرَينِ مَظهَرُها إِذا
طَـلَعَـت عَـلى الدُنـيـا وَسـاعَـةَ تَـخفُقُ
وَالذَرُّ وَالصَـــخَـــراتُ مِـــمّـــا كَــوَّرَت
وَالفــيــلُ مِــمّــا صَــوَّرَت وَالخِــرنِــقُ
فَــتَــنَــت عُــقـولَ الأَوَّليـنَ فَـأَلَّهـوا
مِــن كُــلِّ شَــيــءٍ مــا يَــروعُ وَيَـخـرُقُ
سَــجَــدوا لِمَــخــلوقٍ وَظَـنّـوا خـالِقـاً
مَــن ذا يُـمَـيِّزُ فـي الظَـلامِ وَيَـفـرُقُ
دانَــت بِــآبــيــسَ الرَعِــيَّةــُ كُــلُّهــا
مَــن يَــسـتَـغِـلُّ الأرضَ أَو مَـن يَـعـزُقُ
جـاؤوا مِـنَ المَـرعـى بِهِ يَـمـشي كَما
تَــمــشــي وَتَـلتَـفِـتُ المَهـاةُ وَتَـرشُـقُ
داجٍ كَــجُــنــحِ اللَيــلِ زانَ جَــبـيـنُهُ
وَضَـــحٌ عَـــلَيــهِ مِــنَ الأَهِــلَّةِ أَشــرَقُ
العَـــســـجَــدُ الوَهّــاجُ وَشــيُ جَــلالِهِ
وَالوَردُ مَـــوطِـــئُ خُــفِّهــِ وَالزَنــبَــقُ
وَمِــنَ العَــجـائِبِ بَـعـدَ طـولِ عِـبـادَةٍ
يُــؤتــى بِهِ حَــوضَ الخُــلودِ فَــيُـغـرَقُ
يا لَيتَ شِعري هَل أَضاعوا العَهدَ أَم
حَـذِروا مِـنَ الدُنـيـا عَلَيهِ وَأَشفَقوا
قَــومٌ وَقــارُ الديــنِ فــي أَخـلاقِهِـم
وَالشَــعــبُ مــا يـعـتـادُ أَو يَـتَـخَـلَّقُ
يَــدعــونَ خَــلفَ السِــتــرِ آلِهَـةً لَهُـم
مَــلَأوا النَــدِيَّ جَــلالَةً وَتَــأَبَّقــوا
وَاِســتَـحـجَـبـوا الكُهّـانَ هَـذا مُـبـلِغٌ
مـــا يَهـــتِـــفـــونَ بِهِ وَذاكَ مُــصَــدِّقُ
لا يُــســأَلونَ إِذا جَــرَت أَلفــاظُهُــم
مِــن أَيــنَ لِلحَــجَـرِ اللِسـانُ الأَذلَقُ
أَو كَـيـفَ تَـخـتَـرِقُ الغُـيـوبَ بَهـيـمَـةٌ
فــيـمـا يَـنـوبُ مِـنَ الأُمـورِ وَيَـطـرُقُ
وَإِذا هُـمـو حَـجّـوا القُـبـورَ حَسِبتَهُم
وَفـدَ العَـتـيـقِ بِهِـم تَـرامى الأَينُقُ
يَــأتــونَ طــيـبَـةَ بِـالهَـدِيِّ أَمـامَهُـم
يَــغــشــى المَـدائِنَ وَالقُـرى وَيُـطَـبِّقُ
فَــالبَــرُّ مَــشــدودُ الزَواحِــلِ مُـحـدَجٌ
وَالبَــحــرُ مَــمــدودُ الشِــراعِ مُــوَسَّقُ
حَـتّـى إِذا أَلقَـوا بِهَـيـكَـلِها العَصا
وَفّــوا النُــذورَ وَقَــرَّبـوا وَاِصَّدَّقـوا
وَجَــرَت زَوارِقُ بِــالحَــجــيــجِ كَـأَنَّهـا
رُقـــطٌ تَـــدافَـــعُ أَو سِهـــامٌ تَــمــرُقُ
مِــن شــاطِــئٍ فـيـهِ الحَـيـاةُ لِشـاطِـئٍ
هُــوَ مُــضــجَــعٌ لِلســابِــقـيـنَ وَمِـرفَـقُ
غَـرَبـوا غُـروبَ الشَـمـسِ فـيهِ وَاِستَوى
شـــاهٌ وَرُخٌّ فـــي التُـــرابِ وَبَـــيــدَقُ
حَـيـثُ القُـبـورُ عَـلى الفَـضاءِ كَأَنَّها
قِـطَـعُ السَـحـابِ أَوِ السَـرابِ الدَيـسَقُ
لِلحَـــقِّ فـــيـــهِ جَـــولَةٌ وَلَهُ سَـــنـــاً
كَــالصُــبــحِ مِـن جَـنَـبـاتِهـا يَـتَـفَـلَّقُ
نَـزَلوا بِهـا فَـمَـشـى المُـلوكُ كَرامَةً
وَجَــثــا المُــدِلُّ بِــمــالِهِ وَالمُـمـلَقُ
ضــاقَــت بِهِــم عَــرَصــاتُهـا فَـكَـأَنَّمـا
رَدَّت وَدائِعَهــا الفَــلاةُ الفَــيــهَــقُ
وَتَــنـادَمَ الأَحـيـاءُ وَالمَـوتـى بِهـا
فَـكَـأَنَّهـُم فـي الدَهـرِ لَم يَـتَـفَـرَّقوا
أَصــلُ الحَـضـارَةِ فـي صَـعـيـدِكَ ثـابِـتٌ
وَنَــبــاتُهــا حَــسَــنٌ عَــلَيــكَ مُــخَــلَّقُ
وُلِدَت فَــكُــنـتَ المَهـدَ ثُـمَّ تَـرَعـرَعَـت
فَــأَظَــلَّهــا مِــنـكَ الحَـفِـيُّ المُـشـفِـقُ
مَــلَأَت دِيــارَكَ حِــكــمَــةً مَــأثـورُهـا
فـي الصَـخـرِ وَالبَـردي الكَريمِ مُنَبَّقُ
وَبَـنَـت بُـيـوتَ العِـلمِ بـاذِخَةَ الذُرى
يَـــســـعـــى لَهُـــنَّ مُـــغَـــرِّبٌ وَمُــشَــرِّقُ
وَاِسـتَـحـدَثَـت ديـنـاً فَـكـانَ فَـضـائِلاً
وَبِــنــاءِ أَخــلاقٍ يَــطــولُ وَيَــشــهَــقُ
مَهَــدَ السَــبــيــلَ لِكُــلِّ ديــنٍ بَـعـدَهُ
كَــالمِــســكِ رَيّــاهُ بِــأُخــرى تُــفـتَـقُ
يَــدعــو إِلى بِــرٍّ وَيَــرفَــعُ صــالِحــاً
وَيَــعــافُ مــا هُــوَ لِلمُــروءَةِ مُـخـلِقُ
لِلنــاسِ مِــن أَســرارِهِ مــا عُــلِّمــوا
وَلِشُــعـبَـةِ الكَهَـنـوتِ مـا هُـوَ أَعـمَـقُ
فــيــهِ مَــحَــلٌّ لِلأَقــانــيــمِ العُــلى
وَلِجــامِــعِ التَــوحــيــدِ فـيـهِ تَـعَـلُّقُ
تــابــوتُ مــوســى لا تَــزالُ جَــلالَةٌ
تَــبــدو عَــلَيــكَ لَهُ وَرَيّــا تُــنــشَــقُ
وَجَـــمـــالُ يــوسُــفَ لا يَــزالُ لِواؤُهُ
حَــولَيــكَ فــي أُفُــقِ الجَــلالِ يُــرَنَّقُ
وَدُمــــوعُ إِخـــوَتِهِ رَســـائِلُ تَـــوبَـــةٍ
مَــســطــورُهُــنَّ بِــشــاطِــئَيــكَ مُــنَــمَّقُ
وَصَــلاةُ مَــريَـمَ فَـوقَ زَرعِـكَ لَم يَـزَل
يَــزكـو لِذِكـراهـا النَـبـاتَ وَيَـسـمُـقُ
وَخُـطـى المَـسـيـحِ عَـلَيكَ روحاً طاهِراً
بَــرَكــاتُ رَبِّكــَ وَالنَــعـيـمُ الغَـيـدَقُ
وَوَدائِعُ الفـــاروقِ عِـــنـــدَكَ ديـــنَهُ
وَلِواؤُهُ وَبَــــيــــانُهُ وَالمَــــنـــطِـــقُ
بَـعَـثَ الصَـحـابَـةَ يَـحمِلونَ مِنَ الهُدى
وَالحَـقُّ مـا يُـحـيـي العُـقـولَ وَيَـفتُقُ
فَــتــحُ الفُـتـوحِ مِـنَ المَـلائِكِ رَزدَقٌ
فـــيـــهِ وَمِـــن أَصـــحــابِ بَــدرٍ رَزدَقُ
يَــبــنــونَ لِلَّهِ الكِـنـانَـةَ بِـالقَـنـا
وَاللَهُ مِـــن حَـــولِ البِــنــاءِ مُــوَفِّقُ
أَحــلاسُ خَــيــلٍ بَــيــدَ أَنَّ حُــسـامَهُـم
فـي السِـلمِ مِـن حِـذرِ الحَوادِثِ مُقلَقُ
تُـطـوى البِـلادُ لَهُـم وَيُـنـجِدُ جَيشُهُم
جَـــيـــشٌ مِــنَ الأَخــلاقِ غــازٍ مــورِقُ
فـي الحَـقِّ سُـلَّ وَفـيـهِ أُغـمِـدَ سَـيفُهُم
سَـيـفُ الكَـريـمِ مِـنَ الجَهـالَةِ يَـفـرَقُ
وَالفَـــتـــحُ بَــغــيٌ لا يُهَــوِّنُ وَقــعَهُ
إِلّا العَــفــيــفُ حُــســامُهُ المُـتَـرَفِّقُ
مــا كــانَـتِ الفُـسـطـاطُ إِلّا حـائِطـاً
يَــأوي الضَــعــيـفُ لِرُكـنِهِ وَالمُـرهَـقُ
وَبِهِ تَـلوذُ الطَـيـرُ فـي طَـلَبِ الكَـرى
وَيَــبــيــتُ قَــيـصَـرُ وَهـوَ مِـنـهُ مُـؤَرَّقُ
عَــمــرٌو عَـلى شَـطـبِ الحَـصـيـرِ مُـعَـصَّبٌ
بِــــقِـــلادَةِ اللَهِ العَـــلِيِّ مُـــطَـــوَّقُ
يَــدعــو لَهُ الحــاخــامُ فـي صَـلَواتِهِ
مـوسـى وَيَـسـأَلُ فـيـهِ عـيـسى البَطرَقُ
يـا نـيـلُ أَنـتَ يَطيبُ ما نَعَتَ الهُدى
وَبِــمَــدحَــةِ التَــوراةِ أَحــرى أَخــلَقُ
وَإِلَيــكَ يُهـدي الحَـمـدَ خَـلقٌ حـازَهُـم
كَـــنَـــفٌ عَـــلى مَـــرِّ الدُهــورِ مُــرَهَّقُ
كَــنَــفٌ كَــمَــعــنٍ أَو كَــسـاحَـةِ حـاتِـمٍ
خَـــــلقٌ يُـــــوَدِّعُهُ وَخَــــلقٌ يَــــطــــرُقُ
وَعَـلَيـكَ تُـجـلى مِـن مَـصـونـاتِ النُهى
خــــودٌ عَـــرائِسُ خِـــدرُهُـــنَّ المُهـــرَقُ
الدُرُّ فـــــي لَبّـــــاتِهِــــنَّ مُــــنَــــظَّمٌ
وَالطــيــبُ فــي حَــبــراتِهِــنَّ مُـرَقـرَقُ
لي فــيــكَ مَــدحٌ لَيــسَ فــيــهِ تَـكَـلُّفٌ
أَمـــلاهُ حُـــبٌّ لَيـــسَ فـــيــهِ تَــمَــلُّقُ
مِــمّــا يُــحَــمِّلـُنـا الهَـوى لَكَ أَفـرُخٌ
سَــنَـطـيـرُ عَـنـهـا وَهـيَ عِـنـدَكَ تُـرزَقُ
تَهـفـو إِلَيـهِـم فـي التُـرابِ قُلوبُنا
وَتَــكــادُ فــيـهِ بِـغَـيـرِ عِـرقٍ تَـخـفُـقُ
تُـــرجـــى لَهُـــم وَاللَهُ جَـــلَّ جَــلالُهُ
مِـــنّـــا وَمِــنــكَ بِهِــم أَبَــرُّ وَأَرفَــقُ
فَـاِحـفَـظ وَدائِعَـكَ الَّتـي اِسـتودَعتَها
أَنـتَ الوَفِـيُّ إِذا اؤتُـمِـنـتَ الأَصـدَقُ
لِلأَرضِ يَـــومٌ وَالسَـــمــاءِ قِــيــامَــةٌ
وَقِـــيـــامَــةُ الوادي غَــداةَ تُــحَــلِّقُ
شاركها مع اصدقائك

مشاركات الزوار

شاركنا بتعليق مفيد

الشاعر:

أحمد بن علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة، كتب عن نفسه: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق، وارسله الخديوي توفيق سنة 1887م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلية، واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة 1891م فعين رئيساً للقلم الإفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة 1896م لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجينيف. عالج أكثر فنون الشعر: مديحاً، وغزلاً، ورثاءً، ووصفاً، ثم ارتفع محلقاً فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر، فكتب نثراً مسموعاً على نمط المقامات فلم يلق نجاحاً فعاد إلى الشعر.
مولده 16-10-1868 ووفاته 14-10-1932
تصنيفات قصيدة مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ